العراق: مواجهة التغير المناخي ومكافحة الفقر- التحديات الكبرى

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
27/11/2010 06:00 AM
GMT



تبدو الكتابة في الصحف العراقية عن التغير المناخي وتأثيره على مستقبل العراق اقرب الى المفارقة والبطر، على خلفية التطورات الدراماتيكية في المشهد السياسي، وحمى السباق الى نشر مواقف وتحليلات يومية مثيرة، في زحمة التطورات بين القوى المتنافسة التي أفرزتها انتخابات اذار الماضي.

فمواضيع الخلاف المتعلقة بتشكيلة الحكومة، تبدو أكثر راهنية وحراجة من غيرها، ولهذا تعطى لها أولوية التناول في مختلف وسائل الاعلام. ونظرلكثافة التقارير حول الأمر اصبح تناول المواضيع الاساسية الاخرى يشبه العزف على وتر مقطوع!.

على أية حال، إن راهنية القضايا المختلف عليها الآن ستخلي مكانها للأسئلة الكبرى التي تواجه العراق، بعد تشكيل الحكومة المنتظرة، حيث ستواجه البلاد استحقاقات اخرى، نعتقد ان الخلاف حولها، او الاجتهاد بمعالجتها، يمثل المضمون الحقيقي الذي يفترض ان تستقطب حوله الفعاليات أو المجموعات السياسية، لتشكل كتلا اكثر انسجاما، تسعى الى الحكم على اساس برامج تنموية لتحقيق المصالح الوطنية.

لهذا السبب نعتقد ان اكثر المواضيع راهنية في العراق، هي تلك المتعلقة بالقضاء على الفقر والبؤس والامّية، وفي قدرة العراق على مواجهة احتمالات التغير المناخي، وامكانيته في التكيف مع هذا التغير، او تجنب آثاره الكارثية على بيئة البلاد، ولذلك ندعو للتعاطي مع هذه القضية باعتبارها خطرا حقيقيا يضاف الى جملة المخاطر الاخرى التي تهدد العراق.

إن العراق هو من البلدان الاكثر هشاشة وعرضة لإحتمالات التغير المناخي، الممثلة بارتفاع معدل درجة حرارة سطح الارض، وذلك لعدة اسباب، سنتجاوز منها ما تعرض له العراق خلال الثلاثين عاما الاخيرة من سوء الحكم والحروب المدمرة، وهي اشكالات ذات علاقة بآساليب إدارة الحكم سابقا، ويمكن اصلاحها، أو التخلص من عواقبها، بتحسين اساليب الحكم الحالية والمستقبلية، والتي تمثل، مهما عظمت، الجانب الفوقي لهذه القضية الشائكة، وليس الجانب المتأصل او الكامن الملازم للعراق الى الأبد، ونعني به الموقع الجغرافي وخصائصه الفيزياوية.

إن وقوع العراق في منطقة جافة، مجاورة للصحراء الكبرى التي تمتد حتى غرب أفريقيا، وفي اسفل حوضي النهرين دجلة والفرات، اللذين ينبعان خارج حدوده، ومن ثم دورهما في خلق المشهد الطبيعي للعراق، سواءا في الدلتا العراقية عند المصب في الخليج أوإمتداده شمالا في المحافظات الجنوبية التي غطت الأهوار العراقية مساحات كبيرة منها، الى جانب البحيرات والروافد العديدة في الاجزاء الاخرى من العراق، هي حقائق ثابتة!.

لقد شكلت مياه الرافدين، الى حد كبير، أهم خصائص الواقع الفيزيائي الذي يسمى العراق. فقد خلقت مجتمعا تمحورت جل حضارته واقتصاده وثقافته حول المياه. فأصبح الماء، بفعل وفرته، معطى بديهي لدى سكان العراق القدماء والمعاصرين، ولم تتغير هذه العلاقة المصيرية بين المجتمع والمياه في العراق عن شكلها الأول الذي وجدت عليه. وحتى بعد انجاز المشاريع المائية الكبرى كالسدود ومنشآت السيطرة الاخرى على الانهار والروافد العراقية، فإن المنشآت الجديدة  أسهمت بتحقيق "أمن مائي" أكثر، وعززت فكرة كون الماء معطى بديهي، لايلبث ان يعود غزيرا ومتاحا حتى بعد  ان يشح او يجف!.

ان تغيير هذه المعادلة، أي علاقة العراقيين بالماء، او بمعنى أدق متاحيته وسهولة الحصول عليه، ليس مربكا فحسب، بل كارثيا نظرا لعدم وجود اية طاقة أوامكانية للمجتمع، سواء كانت على شكل تجمعات قروية، أو مدن، أو كنشاط زراعي، للتعاطي مع شحة طويلة الامد في المياه. علما أن هذه الشحة لم تعد إحتمالا إحصائيا، بل حقيقة قائمة سيواجهها العراق بأشكال شتى وبأوقات متكررة وذلك لسببين رئيسين؛ اولاهما سيطرة دول الجوار على منابع المياه، وعدم رغبتهم في اتفاق شراكة مع العراق أو توزيع الحصص المائية وفق القوانين المعمول بها دوليا، على الأقل في المدى المنظور (وهذا موضوع سنؤجل الحديث عنه الى مقالة قادمة)،  وثانيهما انعكاسات التغير المناخي الذي لم نشهد منه بعد إلا علائمه الاولى.

فقد سجل معدل درجات الحرارة في العراق ارتفاعا غير مسبوق في العقود الأخيرة، وتشير مقارنة معدل درجات الحرارة المسجلة خلال  العشرين سنة (من 1988 الى عام 2007 ) بمعدلها خلال الفترة التي سبقتها الى زيادة في المعدل بمقدار درجة مئوية واحدة في بغداد، ودرجة ونصف الدرجة في الناصرية (على سبيل المثال)، في حين سجل انخفاض واضح في معدل سقوط الأمطار خلال العشرية الماضية بلغ أكثر من 50% في بغداد مقارنة بمعدلها العام للفترة التي سبقتها.

ولكي نوضح أكثر معنى هذا الارتفاع في المعدل، نقول إن ارتفاع معدل حرارة سطح الارض بدرجة مئوية واحدة يترجم الى فقدان 10% من انتاجية الأرض الزراعية. وأعتقد ان الأمر محسوس في الجهات الاربع من العراق حتى لغير المختصين، اذ يكفي فقط مقارنة الحقول والمساحات الخضراء ووفرة الموارد المائية بما كانت عليه قبل ثلاثين عاما مثلا.

فالاراضي الزراعية المعروفة تاريخيا بخصوبتها، أصبحت أراض هامشية، وأن المعلومات المتوفرة من وزارة الزراعة او التخطيط العراقيتين، او منظمة الزراعة والأغذية العالمية (الفاو) تؤكد انخفاض انتاجية الأرض الزراعية في العراق. كما تقلصت المساحات الخضراء بشكل كارثي، وكذا الأمر بالنسبة للمساحات التي كانت تغطيها المياه كالأهوار والبحيرات والمنخفضات الطبيعية. فقد كانت نسبة المساحات المغطاة بالمياه، تقترب من 9% من مساحة العراق في المواسم الرطبة قبل تجفيف الأهوار من قبل النظام السابق، فأصبحت اليوم بحدود 1%، مع انعدام امكانية استعادة الأهوار العراقية الى سابق عهدها قبل التجفيف، اضافة الى تقليص حجم المياه الواردة للعراق مما يخلق فراغا خزنيا دائميا في بحيرات وسدود العراق.

ان ارتفاع حرارة سطح الأرض، بالاضافة الى أنه يسّرع في الزحف الصحراوي ويقضي على التنوع الأحيائي، ويزيد حدة التبخر من الانهار والمسطحات المائية؛ فهو يحدث أيضا اختلافا عموديا بالضغط الجوي، سببه سرعة تسخين الطبقة الملامسة لسطح الأرض، فيؤدي الى حركة ذرات الغبار صعودا، لتبق معلقة بالجو طويلا، نتيجة لدينامية الغلاف الجوي الناتجة عن اختلاف درجات الحرارة. وهذه ظاهرة أمست واضحة في العراق في السنين الأخيرة، ونتائجها على الصحة العامة وعلى الاقتصاد ليست بحاجة الى إثبات.

كما أن  من نتائج ارتفاع حرارة سطح الارض، هي تحويل مساحات زراعية واسعة في العراق الى أراض أكثر هشاشة وعرضة لأي تغيير في حالات الجفاف أو في حدتها أو تواترها، وكذا الى فقدان خصوبة الأرض، أي انعدام قدرتها على انتاج المحاصيل الغذائية، وكذلك القضاء على انشطة تربية الحيوانات او الصيد او الرعي وغير ذلك، مما ينعكس مباشرة على مستويات معيشة الفلاحين وسكان الريف، المتواضعة أصلا، و يهدد وجودهم واستقرارهم فينزحون الى أطراف المدن المكتظة بالعاطلين عن العمل. فمن البديهي عندما تنعدم قدرة الأرض على اسناد الحياة، يهاجر السكان تفاديا لموت محتم.
 
لقد أكدنا في أكثر من مناسبة بأن العراق بحاجة الى حزمة من السياسات الذكية لمواجهة التحديات الكبرى المتعلقة بتحسين الأمن الغذائي وحماية الزراعة كمورد اقتصادي مهم، نظرا لدورها في القضاء على الفقر، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فمن المعروف ان اية زيادة يحدثها القطاع الزراعي في الناتج الوطني الاجمالي (GDP)  تسهم بتخفيف الفقر بوتيرة تزيد باربع مرات عنها في القطاعات الأقتصادية الاخرى، نظرا لتفشي الفقر في الأرياف بنسب أكبر.

وهنا يمكن تلمس تحسن ملموس في القطاع الزاعي في بعض مناطق العراق، يتمثل في الانتشار الكبير للمزارع المغطاة، نتيجة تعزيز قدرة الفلاحين المالية وامكانية اقراضهم من الموارد التي أتاحتها مبادرة رئيس الوزراء الزراعية، والتي أسهمت في تحريك السوق الزراعي. الا ان هذا التحسن بحاجة الى مبادرات عديدة اخرى، منها ما يتعلق بتطوير البنى التحتية للاقتصاد الزراعي والخدمي، ومنها ما يتعلق بتطوير سياسات وبرامج وطنية وأقليمية تفضي الى تكيف العراق مع المتغيرات المناخية، وتحقق بالتزامن مع ذلك منجزا معتبرا في مكافحة الفقر والبؤس.

إن العراق بحاجة الى، وهو قادر على، التعامل مع المتغيرات المناخية بصورة أفضل. كما يمكن توسيع المساحات الخضراء باستخدام وسائل جديدة، منها اعادة استخدام المياه، وتطبيق اجراءات حازمة للحفاظ على المياه والبيئة، ويكفي النظر الى مدن مثل دبي او ابو ظبي لمشاهدة كيف ان الخضرة  هي التي تتوسع على حساب، بل وتكتسح، الصحراء، وليس العكس، على الرغم من ان الظروف المناخية في هاتين المدينتين اشد منه في العراق.

ان تخصيص الموارد المالية اللازمة، وتعزيز البحث العلمي وتطوير سياسات فاعلة للتعامل مع المعطيات المناخية الجديدة، والتعاون الدولي والاقليمي سيمكن العراق من التكيف مع التغير المناخي قبل ان يبلغ مداه في احداث تغيرات غير قابلة للانقاذ.

*سفير العراق لدى منظمة الأغذية والزراعة الدولية